ترجمة أحمد العلي
مقتطف من الفصل الأول لرواية (Eclipse) : خسوف
في البدء كان شكلًا. أو ليس ذاك حتى. ثِقَلٌ، ثِقَلٌ مُفرط، ثقّالة. شعرت به في ذاك اليوم الأوّل في الحقول. تناما حِسٌّ كأن شخصًا هبط بصمت في خطوات جواري، أو داخلي، بالأحرى، شخصًا غيري، آخر، لكنه مألوف. لطالما اعتدتُ تقمّصَ الشخصيّات، لكن هذا، هذا مختلف. توقّفتُ، مشدوهًا، مُباغَتًا بالبرد الجهنميّ الذي بتُّ أعرفه جيّدًا، ذاك البرد الفردوسيّ. ثمّ خَثَرٌ بسيطٌ في الهواء، وانحجاب لحظيّ للضوء، كأن شيئًا هبطَ عابرًا الشمس، طفلٌ مجنّح، ربما، أو ملاكٌ ساقط. كان أبريل، طيور وشُجيرات، ووميض فضّي لمطرٍ آت، وسماء شاسعة، وسُحُب جليديّة تتقدّم متعاظمة. رأيتُني هناك، أنا المسكونُ، في عاميَ الخمسين، مُعتدىً عليّ بغتة، وسط العالم. كنتُ مرتعبًا، كما كنتُ لأكون. يا للأحزان التي تخيّلتُ؛ يا للأفراح.
التفتُّ لأنظر إلى الخلف نحو المنزل ورأيتُ ما اعتبرت أنّه زوجتي واقفةً وراء نافذة كانت يومًا لغُرفة أمّي. القامَةُ دون حِراك، تحدّق في ثبات جهتي لكن ليس مباشرة إليّ. ما الذي رأته؟ ما الذي كانت تراه؟ شعرتُ أنني أقِلُّ للحظة، أنني عَرَضيّ في تلك النّظرة، أقِلُّ كأنني تلقّيتُ ضربةً خاطفة، أو نُفخَت نحوي قُبلةٌ ساخرة. النهار المنعكس على الزجاج جعل الصورة في النافذة وامِضَةً زَلِقَة؛ أكانت هي أم مجرّد ظِلّ، هيئة-امرأة؟ انطلقت على العشب متفاوت الطّول، أتعقّب خطاي عائدًا، مع هذا الآخر، مُنتَهِكي، يسير في ثباتٍ داخلي، مثل فارس في درعه. كانت العودةُ غادِرة. العشب ينشب في كاحلَيّ وثمّة حُفَر في الطّين، تحت العشب، حفرتها أظلاف ماشية مُمْعنة في القِدَم عندما كانت هذه الحافة من البلدة رِيفًا مُشرعًا، من شأنها أن توقعني في شَرَك، وربما تكسر إحدى العظام الرّهيفة التي لا تُحصى وقِيل إنّها في القدم. دفقةُ رُعبٍ نهضت فيّ مثل فَلَج. كيفَ، سألتُ نفسي، كيف لي المكوث هنا؟ كيف ظننت أنّه يمكنني المكوث هنا، متوحّدًا؟ حسنٌ، فات الأوان الآن؛ عليّ خوض الأمر. هذا ما قلته لنفسي، غمغمْتُه في عُلُوّ، لابدّ لي من خوض الأمر، الآن. ثمّ شممْتُ نتانة البحر الخافتة المالحة وارتعشت.
استفسرتُ من لِيدْيا ما الّذي كانت تنظر إليه.
“ماذا؟” قالت. “متى؟”.
أومأتُ. “من النافذة، في الأعلى؛ كنتِ تنظرين إليّ في الخارج”.
وجّهت إليّ نظرة الضّجر التي راحت تتْقنها مؤخّرًا، جاذبةً ذقنها إلى الوراء نزولًا، كأنها تبتلع شيئًا في بُطء. قالت إنّها لم تكن في الأعلى. مكثنا صامتَين لحظةً بعدها.
“ألا تشعرين بالبرد؟” قال. “أنا بارد”.
“أنت دائمًا بارد”.
“حلمتُ البارحة أنني طفلٌ وعُدتُ هنا”
“طبعًا؛ أنت لم تغادر هنا قط، هذه هي الحقيقة”.
حسٌّ رهيف بأوزان الشّعر، تحمله لِيدْيايَ.
*
المنزل نفسه هو ما جذَبني للعودة، أَوْفَدَ إليّ رُسُلَه السريّين لاستدعائي إلى… الوطن، أوشكتُ على قول ذلك. على الطريق، ذات شفق شتائيّ، طلع حيوان أمام العربة، مُرتعدًا لكن في هيئة الصّنديد، عاريَ الأنياب أحدّها ووامضَ العينين في وهج المصابيح الأمامية. كنتُ قد توقّفتُ بفِعل الغريزة قبل أن أستوضح ذاك الشيء، ومكثتُ مذعورًا حينئذ مستنشقًا الأبخرة المُنتنة من دُخان الإطارات مُنصتًا إلى دمي نفسه يطرُقُ أذُنيّ. تحرّك الحيوان كأنّه يوشك على الفرار، ثمّ عادَ ساكنًا. يا للضراوة في تحديقته تلك، عينان كهربائيّتان من ضوء نيون أحمر خُرافيّ. وماذا كان؟ ابنُ عُرس؟ نمس؟ أضْخم من أن يكون أيًّا منهما، لكن ليس بقدر أن أشتبه بكونه ثعلبًا أو كلبًا. كائنٌ برّي مجهول وحسب. ثمّ عَدَا منخفضًا، كأنّه دون قوائم، في صمت، ورحل. لم يفتأ قلبي يقرع. الأدغال مائلة إلى الدّاخل نحوي من كِلا الجهتين، في حُلكة بُنيّة إزاء الأشعة الواهنة الأخيرة للنهار المُحتضر. كنتُ مترحّلًا أميالًا عدّة في ما يُشبه النّوم والآن اشتبهتُ أنني تهت. أردت أن أُدير العربة لأعود من حيث قدِمت، لكن أمرًا ما أمسكني عن المضيّ. أمرًا ما. أطفأت المصابيح الأمامية ونازعتُ لأترجّل ثم وقفتُ مرتبكًا في الطريق. شِبهُ الظُّلمة الرّطب ينطوي عليّ، جاعلًا منّي ملْكًا له. من هذا التلّ المنخفض تهوي الأرض الشفقيّة بعيدًا في ظِلال وسديم. طائرٌ فوقي لا يُرى نَعَبَ مُحذّرًا من بين الأغصان، وإذا برُقاقات ثلجيّة كانت على رؤوسها الرّطبة هوَت متهشّمة تهشّمًا زجاجيًّا عند كعب حذائي. عندما تنهّدتُ، نفحةٌ هُلاميّة من نَفَسي ثبتَتْ أمامي لحظة مثل وجه ثانٍ. تقدّمتُ سائرًا حافّة المنحدر ورأيت حينئذ البلدة، قِلّةُ أضوائها المتلألئة، وخلفها في البُعد، لُمَعٌ خافتة للبحر، فأدركتُ إلى أين في غياب وعيي أتيتُ. عدتُ وجلست خلف المقْوَد مجدّدًا وقُدتُ إلى قمّة التلّ وهناك أطفأتُ المُحرّك والمصابيح وتركت العربة تدْرُجُ هابطةً المنحدر في صمت تتقطّعه دقدقة، مشهد حُلُميّ، حتى توقّفت عند الميدان قبل المنزل المنتصب في ظُلمته، المهجور، نوافذه مُطفأة كلّها. كلّها، مُطفأة كلّها.
*
والآن فيما نقف معًا عند إحدى تلك النوافذ نفسها أحاول أن أحدّث زوجتي عن الحلم. سألتها أن تأتي معي، لنتفحّص المكان القديم، قلتُ، منتبهًا إلى نغمة التملّق في صوتي، لنرَ، قلتُ، إن كانت تظنّ أنه يصلح للسُّكنى مجدّدًا، إن كان لرجلٍ أن يسكنه، وحده. ضحكت. “أهكذا تظنّ أنك ستُشفي أيًّا كان ما تفترض أنّه حلّ بك” قالت، “بالهرولة عائدًا إلى هنا، مثل طفل خشيَ أمرًا ويريد الماما؟” قالت إن أمّي ربما تضحك الآن في قبرها. شككْتُ في ذلك. حتى في حياتها، لم يكن لها ذاك الحضور في المَرَح، أمّي. آخرُ الضّحكِ البكاءُ، هذه إحدى مقولاتها. وفيما أسرد حُلمي أنصتت لِيدْيا نافدة الصّبر، مُرسلةً نظرتها إلى سماء أبريل المضطربة فوق الحقول، تلمّ أطراف نفسها إليها إزاء هواء المنزل الرّطب، وابيضّ جناحا أنفها فيما تكبح تثاؤبها. في الحلم كان الصّباحُ صباحَ عيد الفصح، وأنا طفلٌ يقف على عتبة الباب يُرسل عينيه إلى ميدانٍ بلّله المطر توًّا، وبَهَرَته الشّمس. حلّقت الطيور، تصايحَت، وما كادت نسمةٌ تطوف حول أشجار الكرز التي أزهرت حتى أرعشتها تحسُّبًا للرّبيع. شعرتُ ببرودة الفضاء خارج الأبواب على وجهي، شممتُ من دواخل المنزل روائح صباح الاحتفال بتناول الطعام: رائحة أغطية أسرّة بالية، أبخرة شاي، رماد جمر البارحة، وعَبَق يخصّ أمّي، عطر أو صابون، له نكهة خشبيّة. كل ذلك تبدّا في الحلم، واضحًا. وثمّة هدايا عيد الفصح، أثناء وقوفي على عتبة الباب كانت تتكوّم خلفي وهجًا ملموسًا من السعادة في أعماق المنزل: بَيْضٌ أفرغته والدتي الحُلميّة وملأته بطريقة ما بالشوكولاتة – وهذه كانت رائحة أخرى، الرائحة الدافئة لشوكولاتة ذائبة – ودجاجة صفراء بلاستيكيّة.
“وماذا؟” قالت لِيدْيا بنخرةٍ لم تكتمل لتصير ضحكة. “دجاجة؟”.
أجل، قلتُ بحسم. دجاجة بلاستيكية تنهض على قوائم رفيعة وعندما تدفعين ظهرها تبيض بيضةً بلاستيكيّة. أمكنني رؤية ذلك، في الحلم، رؤية لَغْد الدجاجة الصناعيّ ومنقارها المثلّم وسماع النّقرة فيما الزّنبرك ينفلت داخل الطّير والبيضة الصفراء تتقلقل نازلةً القناة حتى تهبط مرتدّةً عن الطاولة، ولا تستقرّ. الجناحان يخفقان، أيضًا، مع قعقعة، أثناء خروج البيضة. صُنعَت البيضة من نصفَين مُفرغَين أُلصق أحدهما إلى الآخر في شكل يخالف الحقيقة، أستطيع برؤوس أصابعي الحلميّة تلمّس النتوء المزدوج الحاد المُحيط بجوانبها. كانت لِيدْيا ترنو إليّ بابتسامة ساخرة، متهكّمة، لكن دون إخفاء غرامها.
“وكيف تعود إلى الداخل؟” سألَت.
“ماذا؟” مؤخّرًا صرت أستصعب فهم أبسط ما يقوله الناس لي، كأنّهم يتحدّثون لغةً لا أميّزها؛ أتعرّف الكلمات فُرادى لكن دون جمعها في ما يشكّل معنى.
“كيف تُعيد البيضة إلى داخل الدجاجة” قالت، “لكي تخرُج مرّة أخرى؟ في هذا الحُلم”.
“لا أدري. إنها فقط… تندفع داخلةً، كما أظن”.
الآن ضحكَت، ضحكًا صاخبًا.
“حسنٌ، وماذا يقول دكتور فرويد، في هذا الشّأن؟”.
تنهّدتُ في غضب. “ليس كُلُّ ما…” تنهيدة. “ليس كُلُّ ما…” وتركتُ المُحاولة. ما زالت تثبّتني بنظرة انتقاص مُحبّة.
“أوه، حسنٌ” قالت، “أحيانًا الدجاجة هي دجاجة وحسب – إلّا إذا كانت فرّوجًا”.
والآن كلانا غاضب. لم تتفهّم لمَ أردتُ العودة إلى هنا. قالت إنّ الأمر هوَس مرَضيّ. قالت إنّه كان عليّ بيع المكان منذ سنين طويلة، عندما رحلت أمّي. كنت منتصبًا في صمتٍ متجهّم، شاهِرًا لا شيء من وسائل الدفاع؛ ليس عندي منها ما أُظهره. كيف آمُل أن أفسّر لها الرُّسُل الذين استقبلتهم في الطريق ذات مساء شتائيّ، حين لا أستطيع تفسير ذلك لنفسي؟ انتظرَت، ماكثةً في مُراقبتي، ثمّ هزّت كتفيها مستهجنة واستدارت نحو النافذة. إنها امرأة عريضة المنكبين، مليحة. من خلال شعرها الفاحم الغليظ تنتشر مروحة فضيّة على صدغها الأيسر، شُعلة فضيّة جذّابة. تُفضّل الشّالات والأوشحة، والخواتم، والأساور، نُتَف أشياء ترنّ وتُقرقع؛ أتخيّلها أميرة صحراء، تقطع بحرًا من رمال. طولها طولي، رغم الذّكرى التي تتبدّا لي عن وقتٍ مضى حين كان امتداد ذراعيّ يعلوها. ربما انكمشتُ، لا يُذهلني ذلك. فالبؤس مدعاةٌ للذّبول.
“إنّه شأنٌ يتعلّق بالمستقبل” قلتُ، “في الحُلم”.
لو أنني أستطيع أن أوصل إليها الشعورَ السّريع الحادّ للعودة هنا في حُلم كثيف مُحيط بكلّ شيء، وكلّ ما فيه ثاقبٌ في دقّته المألوفة، وأنا أنا وفي الوقت نفسه لستُ كذلك. عابسًا، أومأتُ، مُنصاعًا مثل كلب. “أجل” قلتُ، “كنتُ واقفًا على العتبة، في الشمس، في صباح يوم أحَدٍ من عيد فُصح، وبطريقة ما ذاك اليومُ يرتمي في المستقبل”.
“أيّ عتبة؟”.
“ماذا؟” استهجنتُ سؤالها، وهوى كتفي. “هنا، بالطبع” قلتُ، مومئًا، مُحتارًا، واثقًا. “أجل، الباب الأمامي هنا”.
رفعت حاجبيها لي، مُعيدةً رأسها ذا العظام الثخينة قليلًا إلى الوراء، فيما اندسّت يداها عميقًا في جيْبَي معطفها الواسع.
“كأن ما قلتَه حدث في زمن مضى، بالنسبة إليّ” قالت، فاقدةً الاهتمام، أو قليلَه الذي كان هناك على أيّ حال.
الماضي، أو المستقبل، حسنٌ، أيًّا كان ما قُلتُه، الأمر هو أنّهما يخُصّان مَن؟
*
كْلِيف هو الاسم، أَلِكسَندر كْلِيف، وأُدعى أَلِكس. أجل، أَلِكس كْلِيف ذاك. لسوف تذكر وجهي، ربما، العينين الشّهيرتين ذاتَي البريق النارّي الذي ينفُذُ إلى آخر صفّ من مقاعد المسرح. في الخمسين أنا، إن كنتُ أقول هذا فهو كذلك، وما زلتُ وسيمًا وسامةً بملامح شاحبة مُجهدة ومضبّبة. تفَكّر كيف لشخصيّة هاملت المثالية أن تبدو، وستعثر عليّ: الشّعر الأشقر الأملس –شابَهُ الرّماديّ الآن– العينان الشفّافتان بزُرقتهما الباهتة، عظام الوجنتين الاسكندنافيّة، وذاك الفكّ المُندفع، الحسّاس، إلّا أنّه يوحي بأعماق من الوحشيّة المُصفّاة. أذكُر ذلك هنا فقط لأنني مُحتار إلى أيّ مدى يُمكن لملامحي المسرحيّة تفسير اللُّطف، والرقّة، والحُبّ العطوف الذي لا يفتر ولا أستحقه، الذي يُظهره لي عديدٌ – حسنٌ، ليس عديدًا، ليس ما قد يعتبره أكثر لوبيلو[1] إخلاصًا عديدًا – من النساء اللواتي انجذبن إلى فَلَك حياتي عبر السنين. لقد اعتنينَ بي، حافظنَ عليّ، رغم ما قد ينحوه سلوكي من تهوّر أحيانًا، كُنّ هناك دومًا ليوقفن سقوطي. ما الذي يريْنَه فيّ؟ ما الّذي فيّ ليُرى؟ رُبما السّطح هو كلّ ما ينتهين إليه. في شبابي لطالما قُدِّرْتُ الفاتنَ المثاليّ. لم يكن ذاك عدْلًا. صحيحٌ أنني قادرٌ أن أكون البطلَ ذا الشّعر الكتانيّ عندما تتطلّب المناسبةُ ذلك، لكن أفضل ما أجيده هو لعبُ الكآبةَ، الحالات الداخليّة، الشخصيّات التي لا تبدو جزءً من طاقم التمثيل لكنها تُجلَب من الشّارع عَرَضًا لتهبَ الحبكةَ واقعيّةً أعمق. الشّخصيّة الواعدة بالخطر هي تخصّصي، أجدتُ أداء دور المهدّد بالأذى. إذا كانت الحاجَةُ إلى دور دسّاس السُّم، أو مُنتقم يرتدي حُلّة مقصّبة، فإنني رجُلك. وحتى في الأدوار المُشمسة، السّخيفُ ذو القُبّعة القشيّة أو متجرّع الكوكتيلات الفكاهيّ، فإنني مصدر انبعاثِ قلقٍ وتهديد بأمر ما يحبس أنفاس حتى العجائز العزيزات ذوات القُبّعات في الصفّ الأماميّ، ما يدفعهن للتشبّث أكثر بحقائبهن المحشوة بالسكريّات. أستطيع لعب الشخصيات ذوات الأجساد الضّخمة، أيضًا؛ لطالما أبدا ليَ الناس، عندما يلمحونني عند بوّابة المسرح، دهشتهم لرؤيتي في ما يدعونها الحياة الحقيقيّة، لستُ ثقيل الخُطى الأشعث السّمين الذي يتوقّعونه، بل مشذّبًا رشيقًا حذِرَ الخُطى حذرَ راقص. لقد خطفتُ ذاك كلّه خطفًا، هل ترى، لقد درستُ ضخام الأجساد وفهمتُ أن ما يُحدّدهم ليست العضلات ولا القوّة أو العنف، بل هشاشةٌ في الجوهر. ضِآلُ القامة كلّهم مندفعون وتملؤهم الثّقة، فيما الضّخام، إن كانوا صالحين للتّقديم على المسرح في كل حال، فإنّهم يبعثون شعورًا عطوفًا بالحَيْرة، أنّهم ضائعون، وأنّهم حتى في كرْب عظيم. كدماتهم أقلّ من المكدوم. لا أحد يتحرّك بظرافة أكثر من العملاق، رغم أنه هو من يظهر داهسًا سيقان الفاصولياء أو يحمل في عينيه النيران التي تميّزه. كلّ ذاك تعلّمته، وتعلّمت أداءه. إنّه أحد أسرار نجاحي، فوق الخشبة وخارجها، أن أتقمّص باقتدار. والسّكون، سكونٌ رفيعٌ مُطلَق حتى في خضمّ الفوضى، تلك إحدى حِيَلي أيضًا. هذا كان تَوْق النقّاد حين يتحدّثون عن تقمّصي الخارقِ لشخصيّة أياغو[2] أو العاصفِ لريتشارد الثّالث[3]. الوحشُ الكامنُ هو دومًا الأكثر إغواءً من ذاك المُنفلِت.
لا أغفل ملاحظة استعمالي الزّمن الماضي في كلّ ما سبق من سطور.
آهٍ، الخشبة، الخشبة؛ لسوف أشتاقها، أعرف. تلك الأمثال السّائرة عن تعلٌّق قُدامى المسرحيّين بعضهم ببعض هي، لابدّ أن أُقِرّ، صحيحة. أبناء الليل، نبقى رِفقةَ بعضنا في مُجابهة ظُلمةٍ مُنتهِكة، ونُمثّل أننا ناضجون. إنني لا أجد في زُملائي الرّجال تحديدًا ما يُحَبّ، إلّا إذا كنّا في طاقم تمثيل واحد. نحن الممثّلون نهوى التشكّي من الأوقات العِجاف، العروض في المقاطعات البعيدة، المُعدّات المتداعية وجولات السواحل المَطيرة، غير أن رثاثة تلك العوالم المُبهرجة هي ما أُسِرُّ حُبّه. عندما أعيد النظر إلى مسيرتي المهنيّة، التي يبدو أنها وصلت مُنتهاها الآن، فإن أكثر ما أستدعيه بشغف هو ذاك الضِّيق الحميم لقاعةٍ ما بالية وسطَ لا مكان وتنغلق بسُرعة عن الظُّلمة المزدهرة لمساء خريفيّ في الخارج وتعبق بروائح دخان سجائر ورطوبة معاطف؛ وفي بُقعة ضوئنا نحن المُؤدّون نختالُ ونُلقي الخطب، نضحك وننتحب، فيما الظُّلمة تمتدّ مثل فروٍ كثيف يتخلّله جمْعٌ غامضٌ من عيون كثيرة تتعلّق بكُلّ كلمة نجأرُها، يتلهّف لكلّ إيماءة مُبالَغة. في عُنُق الأدغال هنا، في صِغَرنا، كنّا نقول عن الأداء المبالغ فيه في ساحة اللعب إنّه أداء قيْد النضج ولم يتشكّل بعد؛ هذه عادةٌ لم أستطع الإقلاع عنها؛ لقد عِشتُ على التشكُّل، في الواقع، مدَدْتُ حياتي به. ذاك ليس واقعًا، أعرف، لكنّه بالنسبة إليّ في المرتبة الثانية ممّا أُجيد – وتمُرّ أوقاتٌ يغدو هو كلّ ما لديّ، واقعيًّا أكثر من الواقع. عندما فررْتُ من ذاك العالم المأهول بالناس لم يكن معي سوى نفسي لتقيني الأسى. ولكي آسى قَدِمتُ إلى هنا.
لم أجد مفرًّا من التّمثيل. منذ بكارة أيّامي كانت الحياة بالنسبة إليّ حالةً مستمرّة من تتبُّعي ومُراقبتي. حتى في خلوتي أُظلّل نفسي بالحذر، مُبقيًا الواجهة قائمة، مُرتديًا شخصيّةً ما. هنا نبعُ غطرسة الممثّل، أن يتخيّل العالم مسكونًا بعَيْنٍ وحيدةٍ نَهِمة لا تأخذها سِنَةٌ ومثبّتة عليه. وهو بالطّبع، فيما يمثّل، يظنّ نفسه الحقيقيّ الوحيد، الطّيفَ الأساس في عالمٍ من ظِلال. تَرِدُ إليّ ذِكرى بعينها – رغم أن ذِكرى هنا ليست الكلمة الأدقّ، فالذي أفكّر فيه أشدّ صلابة ليغدو ذِكرى حقيقية – واقفًا في الممَرّ المنحدر جوار المنزل في صباحٍ من أواخر الرّبيع في صِباي. النّهارُ رطبٌ مُنتعشٌ مثل قصبةٍ مُقشّرة. وضوء هائل صافٍ خُرافيّ يرتمي فوق كلّ شيء، يستطيعُ نظَري التقاط الوُريقات فُرادى حتى لو كانت في قِمَم أشجار باسقة. شبكة عنكبوت أثقلها النّدى تبرُقُ في أجمة. ومن آخر الممَرّ تأتي مُسِنّةٌ تعرُج، متقوّسة حدّ الرّكوع، مِشْيَتهُا أرجحَةٌ بطيئة متكرّرة مؤلمة حول محور وِرْكَيْن تالفَين. أشاهدها تدنو. بدت مُسالمة، كائنٌ قليل الحِيلة. رأيتها مرارًا في أنحاء البلدة. كلّما مالَت لتتقدّم خُطوةً رفعَت وجهها وأطلقت نحوي نظرةً جانبيّة حادّة، مُعبّرة. كانت ترتدي شالًا وقُبّعة قشيّة عتيقة وزوج أحذية جلديّ كان طويل العُنُق لكنّه قُصّ بخشونة عند الكاحلين. وتدلّت سلّةٌ من ذراعها. آنَ جاورَتني توقّفَت ورفعت إليّ نظرةً شَزرة، نافدة الصّبر، غير متوازنة. لسانُها ظاهِر، وتُغمغم أمرًا لم أستبِنه. أرتني السلّة، ملآ بفِطْرٍ التقطَتْه من الحقول، فاشتبهتُ أنها تبيعه عليّ. عيناها زرقاوان زُرقةً ماحِلَة، تشِفُّ مثل عينيّ، الآن. انتظرتني لأتحدّث، تلهَثُ قليلًا، وعندما لم يبدُر منّي أيُّ أمر، ولم أعرِض شيئًا في المقابل، تنهّدت وهزّت رأسها العجوزَ ثمّ تابعَت عَرَجها المؤلم، مُلتزمةً بحافة العُشب. ما الذي يختبئ في تلك اللحظة لتُصيبَني هكذا؟ أكان الهواءُ المُشعّ، أم الضوء المنتشر، أم الشعور بانتعاش الرّبيع في الأرجاء حولي؟ أكانت المُسنّةُ المتسوّلة، استغلاقها، حضورها؟ أمرٌ ما اندفقَ فيّ، صخبٌ غير مُجَسّد. وفْرَةُ أصواتٍ تصارعت داخلي لأعبّر بها. بدوتُ لنفسي مُتعدّدًا. سأُطلقها جميعًا، هذه هي مهَمّتي، أن أكون هُم، الأصواتَ التي لا صوتَ لها! لهذا الشّأن وُلد المُمثّل. بعد أربعة عقود نالَ الموتُ من الممثّل أثناء أداء فصلٍ أخير على الخشبة، فترنّح عنها خارجًا ذليلًا ذُلًّا تفوح منه رائحة العرَق، ماتَ، والحبكةُ على وشك تلمُّس قمّتها.
*
المنزل. عالٍ وضيّق الجانبَين، ينتصب في زاوية من الميدان الصغير المربّع المقابل للجدار الأبيض المرتفع لدَيْر أخوات الرّحمة[4]. في الواقع، مربّعنا ليس مربعًا على الإطلاق، بل يضِيقُ وتأخذ نهايته شكل القُمع مُفضيةً إلى دربٍ يصعد التلّة نحو البلدة. لقد أرّختُ افتتانًا شابَهُ تأمّل ذِهنيّ، وهو مزيجٌ ليس شائعًا في مهنتي – المسرحيُّ المُفكّر، لقبٌ آخر اعتاد النقّاد تقليديَ إيّاه، بابتسامة جانبيّة متكلّفة – في لحظة مِن طفولتي عندما طرأ لي أن أتساءل كيف لمساحة مثلّثة انتهت إلى أن تُدعى مربّعة. جارتُنا المرأة المجنونة في العِليّة[5]. حقًّا، هذا صحيح. في أكثر من صباح أثناء انطلاقي إلى المدرسة رأيتها تُطلّ برأسها الغاليواغيّ[6] إلى أسفل من نافذة العِليّة لتناديني، تصيحُ وتُبَربر. شعرُها من السّوادِ أشدّه، فيما بياضُ وجهها يُعشِي البصر. كانت في العشرين من عمرها، أو الثلاثين، أو حولهما، وتُنادِمُ الدُّمى. الّذي أسْقمَها أمرٌ لا أحد يبدو واثقًا من معرفته، أو لن يُقال؛ دارَ كلامٌ حول سِفاح القُربى. والدها كان فظًّا، أحمرَ الوجه داكنَهُ في رأس ضخم ينهض دون رقبة على كتفَيه مثل صخرة كُرويّة. أتصوّره مُرتديًا مِشَدّةَ السّاقَين، لكن هذا مجرّد شطحة خيال بالتأكيد. عُذرًا، أن أقذف على تصوّري عنه مِشَدّةً وبنطالًا قُنّبيًّا ليس أمْرًا خاطئًا، فتلك الأيام بلغَت من البُعد عنّي الآن أنّها أمْسَت مُعتّقةً في الرّثاثة.
انظُر كيف أتفادى وأهبِط، مثل ملاكم متمكّن؟ بدأت الحديث عن منزل الأسلاف وبجُملةٍ أو اثنتين انتقلت إلى الجارَة. هذا يلخّصني تمامًا.
تلك الحادثة مع الحيوان في الطريق في غسقٍ شتائيّ كانت تامّة، لكن ما الذي فيها كان تامًّا تحديدًا، لا أعرف. رأيتُ أين كُنت، وفكّرتُ في المنزل، وعرفتُ أنني لابُدّ عائدٌ لسُكناه ولو حِينًا. وهكذا جاء اليوم الأبريليّ حين قُدتُ مع ليديا نزولًا هذه الطُّرُق المألوفة وعثرتُ على المفاتيح، تركَتها تحت صخرةٍ جوار العتبة يدٌ لا أعرفها. هذا الغياب لأيّ عُنصر إنسانيّ كان يُلائم حاجتي، كأنّ…
“كأنّ ماذا؟” قالت ليديا.
التفتُّ عنها مستهجنًا.
“لا أعرف”.
*
حالًا رتّبتُ أموري – كسَرتُ عقدي بفظاظة، جَولة صيفية أُلغيَت – لم أستغرق وقتًا يُذكَر، نهارَ يوم أحدٍ وحسب، لأنقل أشيائي إلى هناك، الحاجيّات التي تلائم ما أصررْتُ على الظّنّ أنها ليست أكثر من فترة قصيرة من الحياة، راحة مستقطعة بين عرْضَين. حمَلْتُ حقائبي وكتبي إلى حاوية العربة ومقاعدها الخلفية، دون كلام، فيما راحت ليديا تنظر إليّ بذراعين مكتّفَتَين، تبتسم في غضب. تملّصتُ منها ذهابًا وإيّابًا بين المنزل والعربة دون وقفة، وَجِلًا أنني إذا توقّفت مرّة فلن أُعاود ما كنت أفعل، لسوف أذوبُ في وحْلٍ من التوتّر على الرّصيف. كان الوقت صيفًا، أحد أيّام يونيو المبكّرة السّديميّة المُلتبسة التي يبدو نصفها من صَنيع الطّقس والآخر من الذّاكرة. نسمة ناعمة أنْهَضَت شُجيرة الليلَك جوار الباب الأمامي. في الجهة الأخرى من الطّريق ثمّة زوْجٌ من شجر الحَوَر، يتحاوران في حماسة أمرًا مُروّعًا، لأوراقهما رنين. اتّهمتني ليديا بأنني عاطفيّ. “هذا كلّه صورة من صور الحنين الحمقاء” قالت، وضحكت ضحكًا متخبّطًا. صدّتني في الرّواق، غرست نفسها وحاجزَ يديها المكتّفتَين أمامي ولم تدعني أمر. وقفتُ ألتقط أنفاسي، أثقلتني الحقائب، ورحتُ أحدّق عابسًا في الأرض بين قدميها، لا أقول شيئًا. تصوّرت نفسي أجذبها وألكمها. هذا هو نوع الأفكار التي تتراءى لي هذه الأيام. وهذا غريب، فلم أكن يومًا من هُواة العراك: لطالما كانت الكلمات سلاحًا كافيًا. صحيحٌ أننّا، عندما كنا أصغر سنًّا وعلاقتنا عاصفة، اشتبكتُ وليديا بالأيدي أحيانًا لتسوية خلافٍ ما، لكن هذا الشعور لم يقترب من الغضب اقترابه من أيّ شعور آخر – يا للإغواء في مرأى امرأة تلوح بقبضتها لتسدّد لكمة! – وبعد ذاك كلّه، بطريقة أو بأخرى، قد يخرج أحدنا من المعركة بأذن تطنّ أو نابٍ مثلوم. تلك الأفكار العُنفيّة تُطلق تحذيرًا ما. أليس صحيحًا أنني طوال حياتي ربما كان عليّ أن أنزاح عن طريق الأذى؟ أذى الآخرين، أقصد؛ إيقاعه عليهم.
“كُن صادقًا” قالت ليديا. “هل ستتركنا؟”.
نا.
“أنصتي، محبوبتي-“
“لا تقل لي محبوبتي” صاحت. “إيّاك أن تحدّثني بهذا الأسلوب أبدًا”.
كنتُ، أدركتُ، أنني مُصاب بالملل. الملل شقيق الشّقاء، وهذا أمرٌ أمضيتُ في اكتشافه طويلًا. حوّلتُ نظري بعيدًا عنها، إلى الهواء الناعم الذي لا يهدأ. مرّت لحظات، حتى حينئذ، بدا فيها الضوء نفسه مُحتشدًا بالشّخوص. انتظرَت، ولم أكن لأتكلّم. “أوه، حسنٌ، اذهب” قالت، واستدارت مبتعدةً في احتقار.
لكن عندما صرتُ في السيّارة وعلى وشك الانطلاق خرجَت من المنزل بمعطفها ومفاتيحها ثم دخلَت وجاورتني دون أن تنبس حرفًا. ولم يطُل الوقت بنا حتى طوينا طريقًا مُهملًا فاتنَ المجاهيل عبر الأرياف. عبرنا جوار سيركٍ ذاهبٍ حيث نقصد، قديم الطّراز جدًّا، تندُر رؤيته، بعربات خيول مُخضرّة الطّلاء، يقودها غجرٌ ذوي مناديل وأقراط. سيركٌ، والآن، هذا دون شك فألٌ حسَن، فكّرتُ، ثم استشعرتُ شيئًا من الغرابة. الشّجرُ انتفاخاتٌ خضراء، والسماء زرقاء. استدعيتُ صفحةً من دفتر واجبات ابنتي، احتفظتُ به مُذ كانت طفلة، خافِيًا وراء دُرج في مكتبي، مع حزمة من أوراق مصفرّة لجداول عروضٍ أَوْلى، ورسالة حُبّ سريّة أو اثنتين. البُرعم في الزّهرة، كتبَت، في طبْعة يدٍ عريضة مُنتبهة انتباه عينين واسعتين لطفلة في الخامسة من عمرها. الطّينُ بُنّي. أشعر أنّ صحّتي جيّدة مثل برغوث. الأخطاء تحدُث. اجتاحتني دفْقةٌ من تشنّجات حُلوة مَشوبة بحُزن، خذلَت ذِهني. فكّرتُ ربما ليديا على حقّ، ربما أنا عاطفيّ. أعملتُ فكري في الكلمات. العاطفيّة: شعورٌ جوهريّ لا يُكتسَب. الحنين: شَوقٌ دائم إلى ما لم يكُن. أشرتُ بعُلُوٍّ إلى نعومة الطريق. “في صِبايَ تستغرق هذه الرحلة ثلاث ساعات، تقريبًا”. أدارت ليديا حدقتيها إلى أعلى وتنهّدَت. أجل، الماضي، مرّة أخرى. كنت أفكّر في حُلمي صباحَ عيد الفُصح ذاك. ما فتئتُ أشعر أنني مُنتهَك شعوري ذاك اليوم في الحقول: مُنتهَك، مُحتَلّ، مُنتفخٌ بأيٍّ كان الذي دخلني. ما زال هناك؛ أشعر أنني حامل؛ إنّه إحساسٌ فَريد. سابقًا، ما احتويتُه كان كُتلتي البلاستوليّة[7]، لَفيفةَ لُبّي الدافئ من كُلّ ما كُنتَه وما قد أصيره. والآن نفسي الجوهريّة دُفعَت جانبًا بانعدام مُبالاةٍ همجيّ، وغدوتُ بيتًا يذرَعه صعودًا ونزولًا غريبٌ لا يُقاوَم ويدّعي امتلاكه. كُلّي يستبطن دواخلي، ينشُر نظرَه في حَيرة تتعاظَم شدّتها فوق عالم لا شيء منه يُعقَل ظاهِره، لا شيء منه هُوَ هُوَ. وذاك نفسه، غَريبيَ الصّغير، ماذا عنه؟ مُنعدم الماضي، ولا مستقبل له قابل للرؤية، فقط النبض المتّصل لحاضرٍ لا يتبدّل – كيف هو هذا الشعور؟ أن هناك مَوْجودًا يخصّك. أتخيّله في الداخل هنا، يملؤني حتى الجِلد، يتوقّع كلّ حركةٍ منّي ويوافقها، بعناية يُقلّد أدنا تفاصيلي وما أفعل. ولمَ لا أجدني أتلوّى من القرَف، تبعًا للإحساس بأنني مسكونٌ بكُلّ فظاعة؟ لمَ لا ينتابني الاشمئزاز، عوضًا عن هذا الشعور الحُلو الكئيب من التشوّق والوعد اليائس؟
*
المنزل أيضًا مُنتهَك، أحدهم دخل هناك واستمرّ يسكُنه، مُتشرّد ربما أو طَريد. ثمّة كِسَرُ خُبزٍ على طاولة المطبخ وأكياسُ شاي مستعملة في حوض المغسلة، أشياء بُنيّة مسحوقة قذرة. ونارٌ أضرمَت في غرفة المعيشة، ثمّة مِزَق متفحّمة في تجويف الموقد الجداريّ للكتب التي سحبها الدّخيلُ من الأرفُف ليوقد بها. بعض العناوين وأجزاء منها لا تزال مقروءة. مِلتُ نزولًا وحاولتُ استبانتها، عاكِفٌ مثل عرّاف: العائد، منزل أمّي – هذا ملائم، هذا الأخير – وآخر دُعِيَ إبرةُ قلب، وأكثرها تفحّمًا ضرورةُ ال… مع كلمة أخيرة سُفِعَت فاحتجبت بأَثَرٍ ظننتُ أنُّه يُقرَأ ملاك. إنّه ليس مُحرِقَ كتب عاديّ، بالأدلّة. استرحتُ جالسًا على كعبَيّ وتنهّدت، ثمّ نهضتُ وسِرتُ على هواي من غرفة إلى أخرى، مُقطّبًا في وجه السّخام، والأثاث الماحِل، والسّتائر التي بيّضتها الشمس؛ كيف لي المكوث هنا؟ نادَت ليديا أن آتيها. ذهبتُ ووجدتها واقفة في المُغتسل ذي الرائحة الليمونيّة تحت الدرج، تتّكئ برسغها على وركها في ما يُشبه وضعيّة داوودَ دوناتيلو[8]، مُشيرةَ بقَرَف إلى طسْت، انحشَرت فيه كميّة كبيرة من الغائط. “أليس الناسُ رائعون؟” قالت. نظّفنا قدْرَ استطاعتنا، لمَمْنا القمامة، أشرعنا النوافذ، سكبنا دِلاءَ ماء في حَوض المُغتسَل. كلّ ذلك ولم أجرؤ بعد على خوض مجازفة الذّهاب إلى الأدوار العُلويّة.
“هاتفَتْني كاسْ” قالت ليديا دون النّظر إليّ، لاويةً وعاقِدةً عُنق كيسٍ بلاستيكيّ مُنتفخ. شعرتُ بالانقباض المعتاد في صدري. كاسْ ابنتي. تعيش خارج البلاد.
“أوه، حقًّا؟” قلتُ، بحذَر.
“تقول إنها قادمة إلى المنزل”.
“اجتماعُ الهارْبيز[9]، هاه؟” قلتُ ذلك في خِفّة قاصدًا الاستظراف، لكنّ جَبين ليديا احْمَرّ. “الهَارْبَازين[10]” قلتُ على عجَل، “أي الخاطفين، بالإغريقيّة” لعبتُ دَوْرَ الأستاذ النيّق العجوز، دوْرٌ قديم لكنّه لَطيف؛ هذا هو، عندما تكون في ضائقة، مَثّل.
“ستقفُ إلى جانبك، هذا أكيد” قالت.
تبعتها إلى غرفة المعيشة. كُتَل أثاث داكنة ضخمة وقفَت في جفاء ومتحفّزة في عتمة الغرفة الهزيلة، كأنّها من الأحياء. سارَت ليديا إلى النافذة، مُشعلةً سيجارة. ألْبسَت قدميها الدّقيقتين الشّاحبتَين زوْجَ شبشب مخمليّ قُرمزيّ، يُذكّر بطراز جزيرة العرب. تعجّبتُ لفكرة أنّه مضى وقتٌ كنت لأهوي فيه معفّرًا وجهي في الرّمل أمامها، أغطّي تينك القدمين العربيّتين بالقُبَل، ألاطفهما، هائمًا في دمْعٍ سَكِيب.
“[جانبي؟] لم أعرف أن هناك جانبَين” قلتُ ببراءة مُفرطة.
ضحكَت ضحكةً تامّة باردة.
“أوه، لا” قالت. “أنت لا تعرف شيئًا”. ثمّ استدارت. رأسها ملفوف بنُفاثٍ ذي زُرقة رماديّة من دُخان السيجارة، فيما خُضرة الحديقة المتوعّدة تتجمهر في النافذة خلفها، تُطلّ منها رُقعة رهيفة من سماء الصيف اللازورديّة.
في غمرة هذا الضوء، الفضيُّ الذّاهلُ في شعرها بدا صارمًا، مائجًا، مُشرقًا. مرّة في أحد شجاراتنا نعتتْني بالنّذلِ ذي القلب الأسود، فاجتاحتني رِعشة قصيرة دافئة، كتلك التي تأتيني بعد إطراء جميل – أجل، هذا هو معشر الأنذال ذوي القلوب السوداء الذي أنا منهم. والآن حدّقَت إليّ لحظة في صمت، تهزّ رأسها في بُطء. “لا” قالت مرّة أخرى، بمرارة وتنهيدة مُنهكَة، “أنت لا تعرف شيئًا”.
حانَت اللحظة التي انتظرتها بنفاد صبرٍ وهلعٍ معًا، حين لم يبق لها أمر تقوم به سوى الرحيل. تلكّأنا على الحجارة المرصوفة خارج الباب الأمامي، في الضوء الحليبيّ لآخر النهار، معًا، لكننا في الآنِ نفسه مفترقين فعلًا. خلا النّهار من نهمة البشر، كأن كل أحد سوانا في العالم قد رحل بعيدًا (كيف لي المكوث هنا؟). ثمّ جاءت سيّارة تئزّ قاطِعةً المربّع واجتازتنا، برّق السّائق عينيه نحونا لحظة، في غضب ذاهل، أو هكذا بدا. عاد السّكون. رفعت يدي ولمست بخفّة كتف ليديا.
“حسنٌ، لا بأس” قالت، “سأرحل”.
لمعت عيناها وتوارت في العربة وصفقَت الباب. انزلقت الإطارات وهي تنطلق مبتعدة. آخر ما رأيته منها بُرجُمٌ في عينها وهي مائلة على المقود. استدرتُ لأواجه المنزل. كاسْ، فكّرتُ. كاسْ، الآن.
*
المهَام، المهَام. أرتّب أدوات المطبخ، أنضّد كتبي، أنسّق صوري المؤطّرة، كفّ أرنبي جلّابُ الحظّ[11]. لم أستغرق وقتًا حتى انتهيت. لا اجتناب للأدوار العُلويّة بعد الآن. متجهّمًا اعتليتُ الدّرج كأنّني أتسلّق الماضي نفسه، ثقلُ السّنوات عليّ يتضخّم، كأنّ الهواء نفسه يتكدّس. ها هنا الغرفة المُطلّة المربّع التي كانت لي يومًا. غُرفة ألِكس. غُبار، ورائحة عطَن وذرَق، على حافة الشباك وداخله، حيث تدخل الطيور من فُتحة في لوح النافذة المكسور. غريب، كيف للأماكن التي كانت حميمةً أن تُمسي مُحايدة تحت غُبار الوقت الهارّ. في البدء فرقعةُ التمييز النّاعمة، وللحظة يخفق الشّيء في الوَعي المفاجئ لفرادَته – الكرسيّ، الصورة الشنيعة – ثم تنتظم كلّها في أُلفةٍ عزيزة، مكوّنات عالمٍ مضى. بدا كلّ شيء في الغُرفة مُشيحًا عنّي في عبوس وصَدّ، متفاديًا عودتي غير المرحّب بها. تريّثتُ لحظة، شاعرًا بلا شيء سوى خواء ثقيل، كأنني حابسٌ أنفاسي – ربما كنتُ كذلك – ثمّ ذهبتُ ونزلتُ طابقًا، إلى الدّور الأوّل، ودلفتُ غُرفة النوم الخلفيّة الواسعة هناك. ما زالت مغمورة بالضوء. وقفت أمام النافذة الطويلة، حيث رأيتُ ذاك اليوم زوجتي التي ليست بزوجتي التي لم تقف هناك، وأرسلتُ بصَري إلى حيث لم تكُن تنظر: الحديقة تتيه في حقول يعسُر وصفها، يتلوها حشدُ أشجار، وبعده، حيث تميل الأرض، نجْدٌ مُخضَرّ يحمل مُنمْنَمات ساكنة من المواشي، وفي البُعد الأخير هامشٌ من تِلال، كامِدَة الزُّرقة إزاء سماءٍ شمسُها غاضبة وفوضويّة خلف أكوام سُحُب. بعد أن استنفدتُ المشاهد الخارجيّة، استدرتُ إلى الداخل: سقفٌ عالٍ، وسريرٌ بمقابس نحاسيّة، وخزانة سرير فيها ثقوبٌ دوديّة، وكرسيّ هزّاز مُنعزل مُمْتعض. الأرضيّةُ ذات أنماط زهور متكرّرة – ثلاث درجات ظِليّة من لون الدّماء الجافّة – تبْهَت رُقعة منها عند السّرير حيث اعتادت أمي أن تسير، لا تُقهَر، ليلة طويلة بعد أخرى أطول، محاولةً الموت. لم يختلجني أيّ شعور. هل كنت هنا قط؟ بدا أنّني أتلاشى في وجه تلك الإيماءات كلّها، الفراغ في الفِراش، البَلَى في الأرضيّة؛ لو أنني تحت عَينِ أحدٍ يُراقب من وراء النافذة لما رأى منّي الآن سوى زوالي.
عثرتُ هنا أيضًا على آثار الدّخيل؛ أحدهم اتّخذَ فراش أمّي مرقدًا له. ثارَت ثائرتي لحظة، ثم تلاشت؛ لمَ يكونُ لِذات الخصَل الذهبيّة[12] أن توسّد رأسها المُتعَبَ وسادةَ أمّي في حين أن هذه الأخيرة المسكينة لن تفعل ذلك مرّة أخرى، أبدًا؟
لكَم أحببْتُ التّطواف في المنزل في شبابي، كما أفعل الآن. فضّلتُ أوقات العصْر، إنّ لها طبيعةً خاصّة في الدّاخل وراء الأبواب، كالأسى، حِسٌّ بِبُعدٍ حُلميّ، بهواء أبديّ دون حدّ حولك، طبيعةٌ مُطمئنة وقلِقة في آنْ. ثمّة نُذُرٌ تختبئ في كلّ مكان. شيءٌ ما يقبض على انتباهي، أيّ شيء، نسيج عنكبوت، أو لطخة رطبة على جدار، أو مِزْقة صحيفة قديمة تبطّن درجًا، أو كتابٌ ورقيّ الغلاف مُهمَل، وكنتُ أقف محدّقًا فيه وقتًا مديدًا، ساكنًا، تائهًا، لا أفكّر. استضافت أمّي مُستأجري غُرَف، موظّفون وأُمناء، ومُعلّمو مدارس، وباعَةٌ مُسافرون. لطالما فتنوني، حياتهم المستأجرة، الماكرة، وشيء من كرْبِها. سُكنى مكانٍ لن يكون أبدًا منزلك، إنّهم أشبه بمُمثّلين مُجبرين على تأدية دوْرِ أنفسهم ذاتها. عندما يرحل أحدهم كنت أتسلّل إلى الغرفة الشاغرة وأستنشق هواءها الهادئ المُنتبه، مُقلّبًا الأشياء، نابشًا الزوايا، باحثًا في الأدراج والخزائن المُفرغة من الهواء فراغًا غامضًا. مُجِدًّا مثل مُحقّق يتصيّد أدلّة. وما هي ثبوتات الجُرم من المتروكات التي تعثّرتُ بها – أسنان صناعيّة مُكشّرة فظيعة، وبنطال تخثّرت عليه دماء وجفّت، وآلة مُريبة لها مِنفاخٌ مثل مزمار القِرْبة صُنِع من مطّاط أحمر وشُدّ بأنابيب وخراطيم، وأغرب من كلّ ما وجدت، جرّةٌ مختومة دُفعَت إلى آخر الرّف العُلويّ من خزانة الثياب، تحمل سائلًا مصفرًّا يحفظ ضفدعًا عالقًا فيه، شِقُّ فمه ينفرجُ عن سواد، أصابع قدميها الشفافة متباعدة تجسّ برقّة جدران ضريحها الزجاجيّة المضبّبة.
أنجلابتا! هذا هو اسم ورق الجدران ذي الطراز العتيق، إنّه خشنٌ وذو طبقات من طلاء أبيض مصفرّ، يغطّي جدران المنزل كلّها وصولًا إلى أفاريزها العُلويّة. أتساءل هل لا تزال تُصَنّع اليوم. أنجلابتا. أمضيتُ النهارَ باحثًا عن هذه الكلمة والآن وجدتها. لمَ جلابتا وليس جلافتا، مثلًا؟ هكذا، قلتُ لنفسي، هكذا حُكمَ عليّ بقضاء أيّامي، مُقلّبًا الكلمات، مُضلّلًا السّطور، شذرات الذاكرة، لأرَ ما الذي يكمُن مترصّدًا في أسفلها، كأنها حِجارةٌ كثيرة مُسطّحة، فيما أتلاشى أنا باستمرار.
الثّامنة مساءً. السّتائر تُرفَع الآن دوني. غيابٌ آخَر. لسوف أُفتقَد. عندما يرحل ممثّل عن أداء دورِ ما فإن لا بديلَ له في مُكنته الحلول مكانه بامتلاء. إنّه يترك وراءه ظِلال أمرٍ ما، جانبًا من الشخصيّة يستطيع وحده استحضاره، إبداعه المتفرّد، مستقلًّا عن السّطور المحفوظة المجرّدة. البديلُ دومًا بديلٌ: بالنسبة إليه هناك دومًا آخر، وجودٌ سابق ينهض داخله. مَن هو إذًا، إن لم أكُن أنا، أمفيترون[13]؟
تناهى إليّ ضجيجٌ من الأسفل وصدمة رُعب عبرتني، أرجفَت لوْحَي كتفيّ وتصاعدت الحرارة لحظة إلى رأسي. لطالما حملتُ روحًا رعديدة، رغم سواد قلبي كلّه. خرجت إلى منبسَط الدّرج والأرضيّة تصرّ تحتي ووقفتُ ظلًّا بين الظلال الواقفة أُنصت، قابضًا سياج الدرج، واعيًا لدبق وبرودة الطلاء الورنيشيّ القديم، والصّلابة المُغرية لخشب السّياج. تصاعد الضجيج ناعمًا مجدّدًا من بئر الدّرج، خدْشٌ متقطّع، خفيف. تذكّرتُ الضّاريَ الغريب الذي برزَ لي في الطريق تلك الليلة. ثمّ سرَت فيّ موجةٌ من السّخط ونفاد الصّبر جعلتني أكفهر وأرجّ رأسي. “أوه، هذا كلّه أبدًا لا…” شرعتُ في القول، ثم أحجمت؛ حملَ الصّمتُ كُلَيْماتي وضحك منها ضحكةً مكبوتة. هناك في الأسفل، تلفّظ أحدهم لعْنةً خفيضة، حلقيّة الجرس. فسَكَنتُ مرّة أُخرى. انتظرتُ – خدشٌ يليه آخر – ثمّ تراجعتُ حذرًا حتى مدخل غرفة النوم، ضبطْتُ كتفيّ، عبَبْتُ نفَسًا، ثمّ تقدّمتُ مجدّدًا إلى مُنبسَط الدّرج، لكن مع اختلاف هذه المرّة – فلصالح مَن كنت أظنّ نفسي مؤدّيًا هذا الأداء الصّامت؟ – صافقًا الباب ورائي، الأفعالُ صريحةٌ صائتةٌ الآن، رجُلٌ في منزله وسط عالمه. “مرحبا؟” ناديتُ بعَظَمة، بتمثيل، لكنّ صوتي انطلق مشروخًا. “مرحبا، مَن هناك؟”. خلقَ ندائي صمْتًا جافِلًا، وضحكةً على وشك الارتفاع. ثمّ جاء صوتٌ مجدّدًا، يُنادي إلى الأعلى:
“آه، هذا أنا فقط”.
كويرك.
كانَ في غرفة المعيشة، على وركيه أمام الموقد الجداريّ، وفي يده قضيب مسودّ. كان ينبش به بقايا الكتب المتفحّمة. رفع رأسه نحوي، حاجبان وديّان قرْنِيّان، وراقبني مُقبِلًا عليه. “لابدّ أن عاملًا ما يفتقر البراعة تسلّل إلى هنا”، قالَ دون ضغينة. “أو أنّه أنت من أحرق الكُتب؟” هذه الفكرة سلّته. هزّ رأسه وطقّ بتجويف خدّه طقّة. “لا يجدُر بك ترك أيّ شيء دون رعاية”.
توقّفتُ عند سفح الدّرج وأومأت، مُريدًا المزيد. لكن هيئة كويرك التهكميّة مُزعجة ولا تُثير فيّ رغبة التحدّي. إنّه مُراسِل مُتقاعد قديم من مجلس قضاء البلدة، عُيّن قبل سنوات خلَت بطلبٍ منّي للعناية بالمنزل. أي أنّني طلبتُ وكيلًا عنّي ليعتني بالمكان: لم أُجادل أن يكون ذاك كويرك تحديدًا. قذف القضيب في الموقد ونهض على قدميه برشاقة مُلفتة، نافضًا يديه واحدةً بالأخرى. لاحظتُ قَبْلًا تلكما اليدين البغيضتين: شاحبتان ملْطاوان، مع رسخين منفوخين، وأصابع طويلة مستدقّة، مثل أيْدي عذراوات الماقبل رفائيليّة[14]. أمّا بقيّته فأشبه بفيل البحر. ضخم، ناعم البشرة، رمليّ الشعر، في متوسّط أربعينيّاته، مع الهالَة الخالدة للابن السّفيه الفاسد.
“ثمّة من كان يعيش هنا، دخيل ما” قلتُ، بنبرة توبيخ شديدة ذهبَت جُزافًا، فكما أرى، لم تضطرب ملامحه. “لقد خلّفَ وراءه أمورًا غير الكتب المحترقة”. ذكرتُ بتهوّْع قَرَف ذاك الشيء الذي وجدته ليديا في المُغتسَل. لكن كويرك تسلّى بذلك أكثر.
“مُحْتَلّ، هي الكلمة الصحيحة” قال مكشّرًا.
كان مُرتاحًا تمامًا، يقف على البساط أمام الموقد – ثمّة حِزٌّ دمويٌّ آخَر هُناك، شبيه بذاك الذي جوار السّرير في الأعلى – وينظر حوله بتشَكُّك، كأنّ أثاث الغُرفة قد انتظمَ ليخدعه فلم ينخدع. عيناه الجاحظتان ذكّرتاني بحبّات السّكاكر المُمْرِضة، تلك التي استهوتني في صِباي. هناك رُقعة مُحمرّة على ذقنه حيث شفْرة الصّباح كشطَت الجلد أكثر من اللازم. من جيب معطفه الكوردوريّ[15] الثّخين، أخرج زُجاجة في كيس ورقٍ بُنيّ. “دفِّئ المنزل” قال، بغمزة خُبْث، مُظهرًا الويسكي.
*
جلسنا إلى طاولة مغطّاة بمفرش مشمّع في المطبخ وشربنا فيما النهار يفنى. لم يكن كويرك ليُتخلّص منه. لقد ثنى ظهره العريض نزولًا على كرسي المطبخ وأشعل سيجارة وغرس كوعَيه في الطاولة، يُعاينني مُدّةً والترقُّب بادٍ عليه، عيناه اللتان تغليان تجولان متكهّنتين وجهي كلّه وهيئتي كأنهما عينا متسلّق آنَ يبحث عن ممْسَك في نتوء خطير لكنه صعب أعلى جُرف. روى تاريخ المنزل قبل زمن أسرتي – لقد تحرّى الأمر، قال، تلك إحدى هواياته، فلديه المستندات، وأوراق التفتيش والشّهادات الموثّقة بحِلف اليمين والصّكوك، جميعها كُتبت بخطّ منمّق بُنّي داكن وكثير التزاويق، ممهورة ومدموغة بالأختام. أثناء ذلك كنت أستعيد ذِكرى أوّل مرّة وجدتُني فيها أنتحب في السينما، دون نهمة، وفوق القُدرة على الامتناع. الألم المتواصل الخفيف في حلْقي المتقلّص هو أوّل ما لاحظته، ثم الدمع المالح الذي كان ينزّ على زاويتَي فمي. كان شتاءً عميقًا، ينتصفُ نهارًا مثلجًا. وكنتُ للتوّ غادرتُ عرْضًا فنيًّا نهاريًّا – الحُلم المستحيل لبَديلي الشّاب سْنِفَلِنغ صار واقعًا – وانحدرتُ مبتعدًا مع نفسي إلى دار عرْض، شاعرًا بالحماقة والابتهاج. ثمّ حين بدأ الفيلم ظهرت هذه الدموع متعذّرة التفسير، والفواق، والعويل المخنوق، فيما اجلس مرتعدًا بقبضتين مشدودتين في حضني، القطرات الحارّة تقعُ من ذقني مبلّلةً صدرَ قميصي. كنتُ حائرًا، وخجلانَ أيضًا، أجل بالطبع، خائفًا من تلك الظّلال النهاريّة الأُخرى البصّاصة حولي أن تُلاحظ انهياريَ المُخزي، لكنّ هناك ما هو مَجيدٌ أيضًا في تحرُّر كهذا، في تجاوُز طفوليّ كهذا. عندما انتهى الفيلم وتواريتُ خارجًا بعينين محمرّتين إلى البرد والظّلام البِكر شعرتُ أنني فارغ، ونشيط، ومغسول. صارت عادةً مخزية بعدئذ، مرّتان أو ثلاثًا كلّ أسبوع غدَوتُ أفعلها، في دُور عرض مختلفة، أرثُّها أفضلها، وما زلتُ دون أيّ خاطِر عمّا أنتحب له، ما الفقدُ الذي أندبه. في مكان ما داخلي لابدّ أنّ هناك بئرًا سريّة من المرارة تنسكب منها تلك الينابيع كلّها. متمدّدًا هناك في ظُلمة مسكونة بأشباح إنسيّة، أبكي حتى أجفّ، فيما بعض العُنف المُفرط والمشاعر المستحيلة تعرض نفسها على الشاشة الضخمة المائلة إليّ. ثمّ وقعَت ليلة جفافي على المسرح – عرق بارد، فم أخرس دون أمل مثل أفواه الأسماك، الحِيَل – فعرفتُ أنّه لابدّ أن أفِرّ.
“وما الذي تنويه، إذن؟” قال كويرك. “بمجيئك هُنا، أعني”.
آخر المساء في النافذة، انعكاس الصنبور عليها والأعشاب المتطاولة خلفها كلّها رماديّة. رغِبتُ في قول أنني عشتُ بين مسطحات مستويّة مدّة طويلة، أتزلّج بمهارة فوقها؛ أطلُب الآن صدمة المياه المُثلجة، الأعماق المُثلجة. غير أنّه ليس التثلّج شكيّتي، أنّ برده نفَذَ إلى داخلي…
[1] لوبيلو: الخادم المُخلص لدون جيوفاني، زير النساء، في أوبرا موتسارت. المترجم.
[2] أياغو: شخصيّة في مأساة شكسبير “عُطَيل” يُضمر لعُطيل كُرهًا ويسعى إلى تدمير حياته. (م).
[3] ريتشارد الثالث (1452-1485) هو ابن الملك ريتشارد يورك، انتزع التاج من ابن أخيه وسجنه مع شقيقه في برج لندن وقُتلا هناك. كتب فيه شكسبير مسرحيّة شهيرة سلّطت الضوء على فترة حكمه وما تخلّلها من أحداث تاريخية، كما ظهرت أيضًا في أعمال أدبية أخرى. (م).
[4] مركز للرّاهبات الكاثوليكيّات تأسّس في مدينة دبلن عام 1831. م.
[5] “the madwoman in the attic” شخصيّة في رواية “جين أير” لشارل برونتي، ينتهي زوجها روشستر إلى حبسها عن قصد في العِليّة بسبب تصرّفاتها الجنونيّة مؤخّرًا. تناولتها الدراسات النسويّة كثيرًا. م.
[6] ” golliwog” شخصيّة رسوم متحرّكة اشتُهرت حتى صُنعت منها الدُّمى والألعاب، لها بشرة سوداء ورأس كبير جدًّا وأشعث. م.
[7] في الأسبوع الثّالث من الحمل، تدخل البويضة المُخصّبة سلسلةً من الانقسامات فتصبح مكوّنة من كتلة خلويّة تنتقل إلى الرّحم لتنزرع ثمّ تتجوّف لتصبح كُرةً مملوءة بسائل وتُدعى الكبسولة البلاستوليّة (بالإنجليزيّة: Blastocyst)، حيث تتمايز إلى كتلتَين؛ إحداهما ستكوّن أعضاء الجنين المختلفة، واسمها الكتلة الخلويّة الداخليّة، أمّا الأخرى فاسمها الأرومة المُغذّية. م.
[8] Donatello’s David (داوودَ دوناتيلو) هو اسم اثنين من التماثيل نحَتها النحات الإيطالي دوناتيلو (1466-1386) في بدايات عصر النهضة. يصوّر التمثالان حالَتين للنبيّ داوود. م
[9] (Harpies) الهَارْبيز نسورٌ بشريّة نصفها امرأة والنصف الآخر طائر حسب الأساطير الإغريقية الرومانية. اسمها يعني “الخاطفات” أو “السّارقات” وهذا يوافق الأفعال التي تقوم بها من سرقة طعام ضحاياها وأحيانًا خطفهم. وهي رُسُل إلهيّة توقع العقاب. كانت حالات الاختفاء المفاجئة والغامضة تُعزى إليهن. م
[10] (Harpazein) وردَت في الكتاب المقدّس بالإغريقيّة مرّتين بمعنى الخطف: “أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي.” إنجيل يوحنا (29:10) “وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكًا، انْصَرَفَ أَيْضًا إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ.” إنجيل يوحنا (6:15). م.
[11] كفّ الأرنب طوطمٌ يجلب الحظ وفق معتقدات الشعوب السلتيّة القديمة، يرمز أيضًا للثّراء والخصوبة والمحاصيل الوفيرة. اعتقدوا أن مكوثها الطويل داخل الأرض يتخلّله اتّصالٌ ما بالآلهة والأرواح. م.
[12] الدببة الثلاثة، حكاية خرافية بريطانيّة، لكن حسب النسخة التي كتبها روبرت ساوذي (1774-1843) فإن هناك ثلاثة دِبَبة يسكنون غابة، وفي غيابهم عن منزلهم النظيف والمنظّم جدًّا، تقتحمه امرأة ذات خصل ذهبيّة تُدعى (Goldilocks) تقلبه رأسًا على عقب، تأكل طعامهم وتكسر كرسيًّا وتنام على سرير أحدهم. م.
[13] سطر من مسرحية أمفيترون التي كتبها بلاوتوس (254ق م-184 قم) ضمن مسرحيّاته الشّهيرة في المسرح الروماني. وأمفيترون هو شخصية من الميثولوجيا الإغريقية، كان قائدًا عسكريًّا. قتلَ عمّه الكتريون ملك الميسينيّين خطأ، فطُرد وهرب إلى خاله ملك ثيفا الذي طهّره من خطيئة القتل. م.
[14] ما قبل الرفائيلية: هي رابطة شكّلها رسّامون وشعراء بريطانيّون عام 1848 احتجاجًا على مستوى الفن الإنجليزي المتدنّي كما زعموا حينئذ. قامت على رغبة الرفع من قيم الموضوعات المصوّرة باستخراجها من تاريخ الآداب والأساطير وتصوير الطبيعة بأمانة تامّة مستخدمين ألوانًا نقيّة صافية، مُعتبرين تصوير مشاهد الحياة اليومية أمْرًا تفِهًا. م.
[15] (corduroy) قماش قطنيّ مُضلّع لا يتجعّد بسهولة. م.